متهجولة من قبل أن أولد " من أوراق مخبلة بحب العراق "  

الخميس، 25 سبتمبر 2008



على ضفاف نهر الفرات نشأ والدي ، في مزرعة خضراء جميلة ، كلشي أخضر ، ماي النهر يجري مثل الحرير ، والكل يشتغل بالحقل ، ولما يجوع الواحد يمد إيده وياكل كوجة ، خوخ ، تفاح ، برتقال ، مشمش ، من اللي يشتهي كلب الواحد ، ولمن يجي وكت الغدا ، يشيل ركية ويروح على البيت ، طبعاً أجواء جميلة وشعور جداً جميل ، لكن بنفس الوقت ما ننكر إنه الشغل متعب وثقيل ، كذلك جانوا يرحون للمدرسة بالبلم ، وهذه في نظري مغامرة وفي نظرهم تعذيب خصوصاً أيام الشتا ، والماي يريد يطب للبلم ، المهيييم ، خلصت الإبتدائية ، وصار والدي العزيز لازم يترك الأرض والديرة ويتجه إلى بغداد ..انكظت الأيام والسنون ، وخلص والدي الجامعة ، واشتغل ، ثم قرر إنه طموحه كبير - مو أقوللكم طالعة عليه - ، وما يوكف عند حد معلم ، لذلك طلع إلى خارج العراق ، اشتغل حتى يلم فلوس ويدرس ، وكانت هذه أولى جياته إلى الإمارات ، وكان ذلك قبل قيام الاتحاد ، بعدين راح لأوروبا درس ولف أوروبا ، كانت الدنيا مشتعلة بالوطن ، فقرر والدي إنه يرجع للإمارات بين ما تهدأ الأوضاع ، وهكذا اتجه للإمارات من جديد ، ثم اتصل بوالدته وطلب منها أن تخطب له ، وكان نصيب والدتي ، طبعاً في ذاك العصر الغابر - هسه ماما تكتلني - في ذاك العصر الحجري ما كان والدي يقدر يشوف والدتي على المسنجر ، ولا يحجي وياها ، ولا يدزلها مسجات على الموبايل ، ولا حتى يقدر يسوي مسكول ، بل إن الاتصال الوحيد الذي تم إجراؤه كان مليء بالضوضاء الستاتيكية ، وكانت الكلمات تأتي بصيغة ( أ ... ؤ .. ئ ) وبهذا تم إرسال والدتي إلى الإمارات ، وعلى قولتها حطولها طابع بريد على كصتها ودزوها خدمة مثل فيدكس وأرامكس.

.
.

بعد فترة شاء الله إنه أتنور الدنيا بمجيئي ، وهكذا ولدت ، وكما تلاحظون ولدت في بلاد الغربة ، وبدون لا جد ولا جدة ولا خال ولا عم ولا خالة ولا عمة ، محد شالني وكمز بية ، محد كال لوالدتي شنهالجمال اللي جبتيه للدنيا !

.
وهكذا نشأت في الدنيا ، واللي جانت مقصورة على بيتنا أو شقتنا الصغيرة جداً ، والتي تذكرتها بشدة عندما رأيت أول قن دجاج ، لا أنكر أن حياتي كانت سعيدة ، لأني تعلمت أطبخ وأنظف وأغسل وأكوي بألعابي ، وهو جهد أشكر عليه ، يعني أم بيت من صغري :)

.
المهم ، أصبح لدي خوات ، وكنت دائماً أسمع عن العراق ، والعراق ، وكمت أحبه بشكل جنوني ، أنام وأقعد أقول لوالدتي أريد أروح للعراق ، طبعاً عرفت - بطريق الصدفة - أن لي أقارب كثيرين ، وهناك ناس بعمري ، وكان في معرفة ذلك إثارة غير طبيعية ، واشتغلت مخيلتي ، أحلم كل يوم إني بالعراق ، وطبعاً بمساعدة بعض الصور القديمة من ألبوم والدتي ، تخيلت بيت جدي ، وتخيلت الأعمام والخوال والخالات والعمات وأهم شي الجد والجدة مثل اللي بالقصص والكارتون ، وفوق كل هذا كان عندنا بيت ، لا يشبه قن الدجاج بحال ، طبعاً هذا حسب كلامهم لأني ما شفته ، وكان هذا بيت الأحلام بالنسبة لي ، لأنه راح نكون كل وحدة بغرفة ، وراح يكون عدنا حوش ، وطرمة ، وراح نصير نقدر نشوف كل الكرايب في بيت جدو بلمتهم يوم الخميس .

.

خلال هاي السنوات ، حتى العيد - بمناسبة قرب العيد - حتى العيد ما جان عيد ، جنا نكظي الأسبوع ما قبل العيد نجهز هدايا لبعضنا البعض ، أعمال يدوية أو ورقية أو رسالة وصورة ملونة ( عبالك ما كاعدين في بيت واحد ) ، وبعدين يوم العيد نتبادل الهدايا ، ونلبس هدومنا ، ونكعد ، لا نعرف أحد يجينا ولا نروح على أحد ، وفوقاها حتى التلفزيون يوم العيد ما يطلع شي ، بس برامج تهاني وما أدري شنو ، وبالتالي تصير الدنيا ظهر ، نبدل ونرجع لحياتنا الطبيعية ، يمكن يمكن تسمح لنا والدتي نروح على الدكان - وهذه مغامرة عظيمة - ، ونشتري حلويات ونرجع ، وبهذا يكون انتهى العيد ، وكل عام وإنتو بخير !

.
وهكذا وبعد الكثير من الأحلام ، جاءت سنة ال 1990 ، واستعدت العائلة الكريمة للذهاب للعراق ، وآني جنت راح أكمز من الفرحة والسعادة والحبور وكل مرادفات السعادة في المعجم .
.
.
سافرنا للعراق ، الرحلة كانت بالسيارة عبر قطر - السعودية - الكويت وصولاً إلى العراق ، وكان اللقاء ، وطلع أكو كثير كثير كرايب بحيث دفتر معارفي ( الموجود في مخي ) المكون من كم صفحة بس ، لم يستطع استيعاب الكم الهائل للوجوه والصلات والكلمات والأماكن ، لكني كنت أسجل كل ما أراه واسمعه على أشرطة في مكتبة مصفطة في مخي ، فهذه الأشياء والأماكن والأشخاص مهمة في حياتي ، والكثير منها قد لا يتكرر ..
.
.
يعود والدي بالسيارة لوحده لسبب يخص الوزارة والجوازات والخروجات - مو تقولون داخلين لبلدنا - ، وعدنا نحن بالسيارة جي أم سي لونها برتقالي إلى عمان ، ومن هناك راح نركب طيارة ، ولما كان ماكو حجز فقد بقينا بفندق ، وأذكر أن والدتي أخذتنا ذات يوم - خلال الثلاثة أيام التي انتظرنا فيها الطائرة - إلى مكان أثري في الأدرن ، مدرج كبير جداً ، وأذكر المكان لأني أذكر الموقف ، حيث كنا نرتدي كلابيات مطرزة ، فطلب الكثير من الأجانب من والدتي أن تسمح لهم أن يتصورا معنا ، وكانت هي ترفض ، ووآني زعلانة ، لأن أريد يصوروني حتى أصير مشهورة ، عمري ست سنوات مو تضحكون عليه ! ، عبالي راح يحطوني على الصفحة الأولى من النييوزوييك!
.
.
وكانت هذه الطلعة الوحيدة في الأردن ، ومن شباك الفندق اللي كان ونستنا الوحيدة النظر من خلاله ومراقبة الرايح والجاي ، أذكر محل الآيس كريم ، وأذكر ملحتنا على والدتي حتى تشتريلنا منه ، جان عبالنا طعمه مثل آيسكريم العراق ، بس طلع ولا حتى ابن عمه !

.
عدنا للإمارات ، وكانت تلك سنتي الأولى في المدرسة ، والتي كنت أحلم أن تكون في العراق ، وصلت متأخرة على المدرسة ثلاثة أيام ، والدي كان مشتريلي جنطة وردي فوشيه ، ومحفظة أم الأسماك اللي تسبح بالماي ، طبعاً لأني الأولى اللي راح تروح للمدرسة ، ولذلك جانت أشيائي كشخة احم احم ..
.
رحت للمدرسة ، وطلعت المدرسة ما بيها ولا بنية عراقية ، لاحظوا إني هستوني جاية من العراق ، طبعاً أصبت بإحباط شديد ، وفوكاها لمن أحجي وياهم محد يفهمني لأ وكلهم يحجون مثل المسلسلات ، مصري وسوري ، وأكو لهجة غريبة عليه ، - المحلية - ما جنت سامعتها قبل ، وهكذا كانت أول أيام صعبة جداً جداً علي ..
.



بعد فترة تعودت على الوضع ، لكني أبداً ما عوجت لساني ، صحيح اضطريت أستبدل بعض الكلمات الجلفية بكلمات عربية فصحى ، لكنها الفصحى ، ولا بديل لها .وهكذا بدأت بعض محاورات الاتصال تحدث بين الثقافات !
.
.

صادقت بنية ما تحجي مما سهل مهمة الاتصال ! وطبعاً بما أنه خيالي واسع جنت احجيلها قصص وهيه تصغي مبهورة ، وكان عدنا بالمدرسة سياج عليه عصافير خشبية ، علمتها إنه نتخيل إنها حقيقية ونأكلها من أكلنا مالت الفسحة !

.

لحد يضحك رجاء ، ترا آني جنت جادة :)
مرت الأيام والشهور والسنوات .. في كل عام يمر ، يبتعد الحلم .. يبدو أني سأنهي دراستي هنا !!

.
عام 1994:

.
.
يأتي عام 1994 بعد طول شوق ، أخيراً سنذهب للعراق من جديد ، قبل هذا أريد أكلمكم عن الباربي (شمس) ، وهي باربي غالية ترا ، لأن رجليها تنطوي وشعرها ينغسل ويتمشط ، وقد كانت هدية من صديقتي العزيزة ، وكذلك الباربي اللي وياهة طاولة وكراسي وأدوات مائدة ، وأكل بلاستيكي ، وهذه أيضاً فدشي بذاك الزمن ، وقد اشترتها لي والدتي لأني حفظت جزء عم يمكن بوقتها ، المهم أن هذه الألعاب الغالية ستذهب للعراق للسبب التالي :
.
.
احنا راح نروح على العراق ، والسنة القادمة سوف نعود ، راح نعيش بالعراق ، فالسنة هاية ناخذ غراضنا اللي نخاف عليها ، ونخليها في بيتنا بالعراق ، وكذلك اشترينا أشياء للبيت ، وكلها راح نوديها ، لأننا السنة القادمة سنستقر في العراق ، وسيأتي وقت العودة الحميدة !!
.
.
عام 94 كان مليئاً بالأحداث ، ذهبنا إلى راوة ، والدير ، أعدنا تعرفنا على الجميع ، وتوطدت العلاقات أكثر ، لكني كنت أنظر بعين تقول : سأعود إن لم يكن غداً فبعد غد !!!
.
.
يأتي عام 1995 وينتهي ، وبعده أعوام وراء اعوام ..

.
.
كبرت ، وأصبح عمري 16 سنة ، 16 سنة وأنا على حلم أن أذهب للعراق وأعيش في العراق ، 16 سنة ، كنتم أنتم خلالها تلعبون في الدربونة ، وتروحون للمدرسة ، تتعلمون ، تشوفون ، تصادقون ناس ، تتنفسون هواء العراق ، وتلعبون على ترابه ، تعيشون بين كرابيكم وأهلكم ..

زين ، 16 راحت الله أعلم كم الباقي ، لكن يجب ان نذهب للعراق ، تأتي الزيارة التالية عام 2000 ، تتساءلون لم لم نزر العراق في فترات متقاربة أكثر ؟؟ أقول لكم إنها الظروف ، لأن عددنا أصبح كبيراً ، والسفر للعراق بلدنا كان يعتبر كالسفر إلى أمريكا الآن ، فالكثير من التصاريح والأوراق والتوقيعات والتوثيقات يجب الحصول عليها ، كما أنها كانت مكلفة ..
.
.
على العموم ، أذكر هذه الرحلة بكل دقيقة فيها ، أذكر انحشارنا في السيارة ، أذكر السيارة الساخنة جداً وقت الظهر في السعودية ، أذكر الجو الرائع في مدينة الزرقاء في الأردن بل والبارد ليلاً ، أذكر ولا أزال أشعر بخفقان قلوبنا ونحن نعد العد التنازلي للوصول إلى العراق ، أذكر حدود العراق ، والبهذلة التي تبهذلناها كعادة الدول العربية المحترمة !!
.
.
وقفنا كثيراً تحت الشمس والحر ، جاءت الكلاب لتصعد في السيارة للتفتيش، حتى ماء للشرب لا يوجد ، الموظفين يخلون بابا يروح ويرجع ميت مرة ، لكن كل شي يهون .. يهون ..
.
.
دخلنا العراق ، على الطريق الصحراوي ، كانت لفاليف الهواء تحمل التراب ، على شكل أعاصير صغيرة ، والأعاصير الحقيقة كانت في قلوبنا ، ثلاثة أيام في الطريق ، وكنا نعسانين مووووت ، لكن عيوننا ما قبلت تنطبك لحظات ، الكل متوتر وقاعدين نحصي الساعات .. الدقائق والثواني ..
.
.
وصلنا بغداد ، شوارع بغداد ، وقفنا على الترفكلايت ، اقترب منا ولد صغير : عمو ما تريدون ماي بارد ، باكيت كلينكس ؟؟
.
.
الله .. اللهجة العراقية !
.
.
ملامح عراقية ..
.
.
شوارع عراقية ..
.
.
هواء عراقي ..
.
.
كان شهر يوليو ومع ذلك فتحنا الشبابيك نستمتع بالهواء ..لفينا .. يمنة يسرة .. يسرة يمنة .. خالي واقف براس الشارع يأشر لنا ، ويدخل بيت جدو ، يكب الكل من البيت ، يطلعون يستقبلونا ، نحضن ونبوس وما نلحك ، آني خالج فلان ، وآني خالتج فلانة ، بالله عليكم شنو شعوري وكرايبي يعرفوني على نفسهم ؟؟؟؟؟؟
.
.
ما أعتقد تفهموني ..قعدت على أقرب كرسي ، وبجيت ..
.
.
تعللت بإني تعبانة من السفر ..
.
.
ركضت على الهول ..
.
.
مثل ما هوه قبل ست سنوات ..
.
.
الست سنوات هاية اللي شعرت بيها اختفت من خط حياتي ..
.
.
خط حياتي اللي امتد في تلك اللحظة بين نقطتين ( 94 و 2000 ) فقط .. هذين الشهرين هما كل حياتي !
.
.
الكرويتات نفسها ، نفس الأغلفة الجوزية الجميلة ، جدو على سريره الأخضر ، جدو تعبان وميقدر يتحرك ، جدو اللي تلاقانا سنة ال 94 بالباب ، دنكت عليه ، حضنته من كل قلبي وبسته ، جدو حبيبي ..
.
.
ركضت على بيبي ، ودموعي نهر من عيني ، بيبي يا عيني هم تعبانة وما تقدر تمشي ، بوستها وبقيت حاضنتها ، وهيه تكول بيه شعر ..وخرتني ماما حتى تحضن أمها ..
.
.
انداريت حولي ..
.
.
كل الناس كبروا ..
.
.
وضاعت عليه الحياة وأنا في انتظارها ..
.
.
الكثير من الأشكال التي لم أعرفها ولم أميزها ، وهم يسلمون عليه ويعرفوني بأنفسهم ، كم أكره الغربة .. أكرهها ..
.
.
انحرمت كل حياتي من وراها ..
.
.
اختنكت ..
.
.
طلعت على الحديقة ، نفس الحديقة ..
.
.
نفس المرجوحة ..
.
.
ركضت حول البيت ، صعدت فوك ، طلعت للشارع ، بالله مو مصدقة ..
.
.
وإلى الآن لا أصدق إني عشت تلك اللحظات ..
.
.
فتت للمطبخ ، شربت من ماي الترمز ، حتى الماي هنا طعمه غير ، الله ..
.
.
من تلك الزيارة أذكر الآن :- سوق الصفافير ، الشورجة ، شوارع بغداد ، بعض النصب والتذكارات ، التكاسي وباصات النقل الجماعي ، حديقة الملاهي اللي أجرنا باض حيل جبير حتى نروحلها ، الآيسكريم أو (الموطة ) العراقية من محل اعتقد اسمه الرواد ، محلات المنصور ، المخبز براس فرع بيت جدو ، الصمون العراقي ، الكهرباء اللي جانت تنكطع ساعتين كل 12 ساعة ، ولازم نصعد ماي قبل ما تنكطع ، المولدة وشلون نشغلها ، شطف الطرمة ، الكعدة بالحديقة بالليل ..
.
.
يمكن اللي دا أحجيه ما يمثل شي بالنسبة لكم ، لأنه يمثل حياتكم العادية اللي إنتو متعودين عليها وعايشيها ، لكنها بالنسبة لي ذكريات أقدسها .طبعاً لا تخلو السفرة من بهذلة ، حيث استصدرت جنسية وجواز وأوراق إلها أول ما إلها تالي ، بس جميل إنه الواحد يتعرف على النظام البيروقراطي في بلده والروتين المتبع ، طبعاً راس مالها خمسة آلاف لواحد من اللي يشتغلون وهوه فر واستصدر الجواز بيوم واحد !
.
.
والمهم الروحة لهاية الدوائر تكون مع بطل ماي صغير مجمد لكل واحد ، لزوم الحر والبهذلة.
.
.
خلصت ال 30 يوم اللي انطونا إياها في الحدود ، مو إلنا إنما للسيارة ، عبالك احنا راح ندز السيارة كبلنا ونلحكها مشي !!
.
.
طلعنا من الفرع نفسه اللي دخلنا منه قبل 30 يوم مرت كمر السحابة والله ..
.
.
ومن زجاج السيارة الخلفي المخطط ، ودعنا الأهل ، وودعنا كل شيء ، ولم نكن نعلم انها المرة الأخيرة التي نرى فيها تلك الأشياء والأشخاص والعالم والأرض والتراب والهواء .. كنا نبتعد ، والأشياء تصغر ، وتشوش - بفعل الدموع - وكلنا نحاول أن نشغل ذاكرتنا على أقصى سعة لها لتخزين كل ما تقع عليه عينينا ، وما يشمه أنفنا ، وما تسمعه آذاننا ..الصحراء من جديد ..لم نعد نستطيع التحمل ، كانت بعضنا تنشج في البكاء ، إي والله .. رغم إننا لم نعلم أنه كان وداعاً ، كنا نظنه فرقة بسيطة وبعدها لقاء ..لكن من جديد عادت الاعوام تمر دون أن نتمكن من الذهاب ..
.
.
بعد عامين توفي جدي - الله يرحمه - ، كنت أنتظر بفارغ الصبر أن أنهي دراستي لكي أذهب للعراق وأدرس الجامعة هناك ، وعندما أنهيت دراستي ، بكآبة شديدة لأن أهلي مترددين في مسألة إرسالي للعراق ، بدأ بوش - كأنه يستقصدني - بالتهديد بغزو العراق ، وهكذا تم تأجيل سفري ، وكلي أتحرق شوقاً وولعاً ، ثم قامت الحرب اللعينة .. نعم قامت رغم كل دعائنا وتضرعنا .. إذن لابد من حكمة ..
.
.
وهكذا قضي على حلمي الأخير بالذهاب للعراق ، بل على حلمي في دراسة الجامعة ، لكن شاء الله والحمد لله دخلت الجامعة هنا ، دخلتها وأنا حاقدة على العالم ، لتحطم حلمي .. لتحطيم العراق كله ..
.
.
بدأ بوش اللعين بقصف العراق ، وأنيرت سماء بغداد بنجوم الحقد والكراهية والغيرة من البلد ذي التاريخ الطويل والعريق ، جاءنا العدو حاملاً نفسه ومعداته عبر القارات والمحيطات متكبداً العناء من أجل أن يسود عيشتنا ! ويالها من مهمة نبيلة !!!!
.
.

راح العرااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااق ..
.
.
راحت بغداد ..
.
.
راحت الشوارع ..
.
.
راحت المتاحف ..
.
.
راحت الحضارة ..
.
.
والأهم من هذا كله ..
.
.
راحوا البشر ..
.
.
خلصوا البشر ..
.
.
اطشروا البشر ..
.
.
فضى العراق ..
.
.
بعد ما بيه أحد ..
.
.
صار مثل بيت قديم بابه مصدي ومفتوح ..والريح تصفر بيه ..
.
.

العراق اللي جانوا الناس لما نقول لهم احنا من العراق ، وطبعاً ما كان أكو عراقيين في الإمارات ، بدليل إني تخرجت من المدرسة وآني العراقية الوحيدة ، جنا لما نقول احنا عراقيين ينظرون لنا بفخر وعزة ، وينظرون لنا على أننا عباقرة وأذكياء وخلوقين وأهل الشرف والأصل ..
.
.
حتى لو تحرر العراق الآن ..على الصعيد الشخصي .. ما راح أقدر أشوف الأشياء القديمة ، لان كلشي تغير ، ما راح أقدر اعيش اللي فات من عمري ، ما راح أقدر أرجع صغيرة .. أركض بالدربونة ، وألعب بالباربي مالتي ..
.
.
ما راح أقدر أروح مشي على المدرسة مع صديقاتي ، ما راح أقدر أقعد على (رحلة) ، ولا أكتب بطبشورة ، ما راح أقدر أعيش بمكان وين ما ألف راسي أسمع لهجة عراقية ، وأشوف ملامح عراقية ..
.
.
ما راح أقدر أرجع لسنوات الجامعة ، واعيش حياة جامعية انحرمت منها ، حياة طالب جامعي طبيعي ، يدرس ويتخرج بأريع سنوات أو خمسة - حسب التخصص - ونكون كليتنا دفعة وحدة ، ونسوي حفلة تخرج !
.
.
ما راح أقدر ارجع أعيش هناك ، أتكلم مع الناس ، أقعد بالحديقة بالليل ، وأروح لراس الشارع أشتري صمون ..بعد ما أقدر أروح وأركب الباصات ، وأشوف الشوارع العدلة ، ولا البنايات اللي مكتوب عليها (الله أكبر) .. وأروح الشورجة ، ولا أقدر أروح أشتري حذاء من المنصور وآكل موطة من الرواد !!
.
.
كليتها راحت ..راحت من الوجود .. ومن حياتي التي لم توجد أصلاً ..
.

توفيت جدتي أيضاً ، والتي كانت في آخر أيامها ترا الجنود الامريكان وتقول بلهجتها الراوية الحنينة : ها البريطانيين هنا ؟؟
.
.
عودة منها إلى تاريخ العراق القديم ، دون أن تدري أن هذه هي الحقيقة ، وأن التاريخ يعيد نفسه ..أقاربنا تهجولوا في بقاع الأرض ، ومن بقي فهو محاصر في بيته ..تناثر العراق حول الصحن الكبير الفارغ ، بعد أن تناوله الجائعون للحضارة والعلم والأخلاق ..
.
.
أعلق في غرفتي الآن خارطة كبيرة للعراق ، كلما أدخل للغرفة أمعن النظر فيها .. أحاول حفظ جميع الأسماء المكتوبة للمناطق والاماكن ، أحاول حفظ مواقعها ، أحاول طبعها في قلبي وعقلي ..وكلما نظرت إلى الخارطة أو إلى العلم الكبير الذي يجاورها ، أشعر بالغصة ، أختنق ..
.
.
قولوا لي ..
.
.
هل أستطيع في يوم تعويض شيء ولو بسيط مما فاتني ؟؟
.
.

أم أن خط العمر لا يمضي إلا باتجاه واحد .. الأمام ؟؟

AddThis Social Bookmark Button

Email this post


8 التعليقات: to “ متهجولة من قبل أن أولد " من أوراق مخبلة بحب العراق "

  • *الخاتــــIraqi Ladyـــووون*
    26 سبتمبر 2008 في 1:14 ص  

    هاي شلون تحملتي كل هالسنين؟؟ آني صار لي خمس سنين و حاسة نفسي حطك و اموت، لا و إحنا بالنسبة لمعارفنا يا عيني كلش صابرين، أعرف ناس يروحون كل كم شهر و ما متحملين..
    ههه ذكرتيني بالباربي، هههه شكيد جنت معجبة بهالمخلوقة، صورها بالغرفة، بالدفاتر، باللزكات، بكل شي.. و يوميه مكسورة وحدة و مشتريه وحدة، بس مع الأسف ما جان عندي وحدة ينغسل شعرها، لكن آني الشطوورة جنت مصرة أغسل لها شعرها مهما كانت الظروف لأنه خاف يصير بيها كمل و جيرانها من الباربيات يتهموها بالوصاخة خخخ..

    يا رب يرجع العراق مثل ما جان و أحسن، و هيجي اوديج مو بس ع الرواد، ع الفقمة و العنابي و القوس و الحديد و إذا تريدين تشوفين هذا شسمه.. الأبرش (هو صحيح أبرش) و على كللل ما تشتهيه نفسج من محلات المووطة.
    و افرج بالعرصات (مكان الديحة المفضل عندي) و اوديج على ستي 2000، و شارع 14 رمضان، و محل (الجيلاوي) مال ملاعيب اللي جنت يوميه رايحة جاية عليه و اللي مع الأسف كتلوا ولده المسكين، و على برج صدام، و أوديج ع الكريعات، و حديقة الزوراء، و المطاعم (الوجبات السريعة)
    خخخخخخ كل لفة همبرجر تجي تشبع لها أربع نفرات، و أبوية يكول لي ماكدونالد أطيب، ماكدونالد لو يكتل روحة ما يجي شي يم همبرجرنا، لا سعر و لا طعم و لا حتى ريحة..

    تتعوض ان شاء الله يا زهرة، بس كولي يا الله و تفائلي بالخير..

    تقبلي تحياتي

  • زهرة الراوي
    27 سبتمبر 2008 في 11:15 ص  

    أهلاً بخاتون ..
    ما شاء الله دائماً متابعة وتردين :)

    أما عن شلون تحملت ، فالسر إنه كان عندي أمل مستمر أنه يجي اليوم اللي نستقر بيه بالعراق ، وبانتظار هذاك اليوم عشت ، ولا أزال أعيش !

    هههههههههههه خطية الباربي ، من تغسليلها شعرها ينتهي ! كله من أجل النظافة! هههههههههه

    إن شاء الله يرجع العراق ، لكن تعتقدين الأماكن راح تكون نفس الأماكن ؟؟ والوجوه اللي عرفتيها نفسها ؟؟
    راح يكون أكو رواد او غيره ؟؟
    أتساءل !

    هوه الحقيقة نص الاماكن اللي ذكرتيها سامعة بيها أما نصفها الآخر فلا علم لي به !
    بناء على هذا الكلام لعد آني معزومة على برجر وموطة ، مو تتراجعين ؟! نلتقي إن شاء الله :)

  • Ali Yaseen
    27 سبتمبر 2008 في 2:56 م  

    هسة انتو ثنيناتكم محزوزين ملزوزين ترجعونة للعراق بذاكرتنا اللي ما عاد تنسى شبر واحد من اللي شافتة بالعراق العظيم وخليتو كلبنة ينعصر هل عصرة...
    هذا العراق من يريد يكوم عندة القدرة انه يطير فوك السحب بلمح البصر ولا تسري عليه قوانين الفيزياء للجاذبية والتدرج ووووو لكن فقط اتذكروا لما قرر العراق العظيم ان يبني برنامج نووي ما طول الموضوع فترة بسيطة وقصفه الكيان الصهيوني عام 1981 ...ليش؟ لانه يعرف شنو العراق والى اين راح يوصل.
    ما اعرف بعد شكول بس والله هذا الموضوع اني دا اشوفة جدام عيني كانه حقيقة لما راح يطلع الاحتلال رتلا رتلا وقبلهم جيوش العملاء اللعينين فوج ورة فوج وراح يرجع العراق بإذن الله شوكة بعين الاشرار كلهم واني اكون واكف دا اشهد هذا الاحتفال العظيم ولابس نظارة شمسية وقبوط كشمير ليش ما اعرف بس اني هيجي حلمت بالموضوع منذ الايام الاولى للاحتلال البغيض.

  • زهرة الراوي
    27 سبتمبر 2008 في 3:41 م  

    هااا ! يعني حضرتك أكيد واحد من القادة !

    تخيلته قبوط مثل لينين وستالين ؟؟ ونظارة شمسية ! بس على هيج لازم تتحرر العراق بالشتا ! هههههههههههههههههه

    عاد آني لمن تخيلت التحرير تخيلت القادة بزي عسكري مثل جيفارا وكاسترو !

    بالنسبة لي راح أكون على حصان أو دبابة في مقدمة الجيش المحرر مثل صلاح الدين - قابل همه راح يطلعون وحدهم - ؟!
    ---------
    العراق مو شي هين ، العراق بلد مليء بالخيرات ، والعقول والرجالات ، والعراق راح يرجع عظيم لمن الناس اللي بيه ترجع صحيح وتلتزم بالطريق الصح ، مو تكتل بعضها البعض ! ومو نسمح ل " آخرين" بحكمنا !

    يبقى الخير موجود .. ويبقى الكثير من العراقيين جواهر .

    بالنسبة للحلم بالتحرير والعودة ، برأيي الأمل مهم جداً ، والأحلام يجب ان تكون كبيرة حتى نعرف أنها كبيرة وتحتاج منا لكل جهد لتحقيقها ، بس بنفس الوقت ، المفروض ما نطير فوق الميزوسفير لأن الوكعة تصير خطيرة ومؤذية جداً .

    الله معنا .. الله ولينا .. الله ناصرنا ..

    اللهم يسر لنا طريقة نجاهد بها في سبيلك ، وندافع بها عن أرضنا وديننا وعرضنا يا أرحم الراحمين .

    اللهم حرر بلادنا وبلاد المسلمين من الطغاة الظالمين وردهم مدحورين بقدرتك يا عزيز يا جبار .

  • *الخاتــــIraqi Ladyـــووون*
    29 سبتمبر 2008 في 12:42 ص  

    آمين يا جماعة..
    أكولكم أشو آني هم ده أتخيل نفسي حكون هيجي لابسة القبوط و المناظر الشمسية و شايلة عوجية، و كلما يطلع جندي أمريكي خيبان و طايح حظه أضربه بالعوجية و اكوله: "حثبي الله عليكم، ثيعنا ذهرة ثبابنا مثهجولين من ولاكم"
    كح كح كح
    بس اهم شي، أكون بعدني لابسة التاج الخاتوني مالي خخخخ

  • نوفل
    9 نوفمبر 2008 في 7:02 ص  

    ماكو هيج قصة

    الله يساعدج يا بنت راوة أحنه الفرات يمشي بعروقنا شلون صبرتي على الفراق

    بس احله شي بالقصة هاي البنية الوياج بالمدرسة الي ما تحجي أصلا ههههه

    تحياتي

  • زهرة الراوي
    11 نوفمبر 2008 في 11:04 ص  

    أهلاً بالأخ نوفل ،،
    شرفت مدونتنا

    مو بالله استغلالية آني ؟؟ ههههههههههه يالله البنية هم جانت متونسة :)

    بالنسبة للصبر على الفراق ، قدر ومكتوب ، شنسوي ! ما عدنا غير اختيار!

    أشكر قراءتك للقصة والتعليق اللطيف

    نتمناك زائراً دائماً للمدونة :)

  • غير معرف
    25 مارس 2009 في 6:33 ص  

    الأخت زهرة الراوي
    أولاً بسم الله ماشاء الله تبارك الله أسلوبك رائع جدًا بالكتابة واندمجت بالقراءة معك ووجدت نفسي أبكي وأبكي لتأثري بالكلام وشعرت أنني عراقية وبالعراق ، وبرغم حبي إلي العراق والعراقيين لأنهم شعب طيب جدًا إلا أنني أتمنى إكتمال فرحتك بالعودة للعراق بشرط زيارة بالصيف وباقي السنة عندنا بالإمارات ، حفظك الله ورعاك

 

Design by Amanda @ Blogger Buster

This template is downloaded from here